كتاب تصديق الخبر وتنفيذ الأمر PDF مادلين اولبرايت : 2015م - 1443هـ تَصْدِيق الْخَبَر وَطَاعَة الْأَمر إن المؤمن الحق يعلم أنه محكوم في كل تصرفاته بأوامر الله تعالى ونواهيه ويشعر أنه مراقب في كل لحظة من لحظات حياته، مراقب من الله سبحانه الذي يعلم السر وأخفى، ولذلك تجده وقافاً عند حدود الله عز وجل مستشعراً عظم المسئولية. ولا يسع المسلم الصادق أمام أمر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن يقول: سمعنا وأطعنا، فجماع الدَّين شَيْئَانِ تصديق خبر الله ورسوله، وانقياد لأمرهما؛ فما كان خبراً، ففائدته التصديق والاعتقاد، وما كان طلباً ففائدته الاستجابة والقبول. وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم (صحيح البخاري، بَابُ قَوْلِ اللهِ تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى من الآية:38]، {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آلِ عمران من الآية:159]. وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَارْتَدَّ نَاسٌ فَمَنْ كَانَ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَسَمِعُوا بِذَلِكَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فَقَالُوا: "هَلْ لَكَ إِلَى صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ"، قَالَ: "أَوَ قَالَ ذَلِكَ؟" قَالُوا: "نَعَمْ"، قَالَ: "لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ"، قَالُوا: "أَوَ تُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟" قَالَ: "نَعَمْ، إِنِّي لَأَصُدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ"، فَلِذَلِكَ سُمَيَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ" (رواه الحاكم في المستدرك: [4407]، وقال الذهبي: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ). وقَدِم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه عيينة بن حصن فقال مخاطباً الخليفة الذي دانت له الروم والفرس: "هي يا ابن الخطاب، فو الله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل"، فغضب عمر حتى همَّ به، فقال له الحُرُّ بنُ قيس: "يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بالْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ}[الأعراف :199] وهذا من الجاهلين". يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافاً عند كتاب الله" (أخرجه البخاري: [4642]). شعار المؤمنين الثابت أمام أوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}. إن أعظم آثار الإيمان في قلب المؤمن التزامه بشرع الله ومحافظته عليه، وأن يكون واقفاً عند حدوده ونواهيه كما قال تعالى في وصف المؤمنين: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:51-52]. وقال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59]. بل قد نفى الإيمان عن أولئك الذين يتململون من أحكام الشريعة حتى ولو في بواطنهم، فقال جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]. وقد ضرب المؤمنون حقاً وهم الصحابة رضوان الله عنهم أروع الأمثلة في التزامهم أمر الله عز وجل ورسوله، قَالَ تعالى: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ . لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:285-286]. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ سبحانه اسْتَجَابَ هَذَا الدُّعَاءَ؛ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة من الآية:284]، قَالَ: "دَخَلَ قُلُوبَهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يَدْخُلْ قُلُوبَهُمْ مِنْ شَيْءٍ"، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «{قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا}»، قَالَ: "فَأَلْقَى اللَّهُ الإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ"، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قَالَ: «قَدْ فَعَلْتُ»: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قَالَ: «قَدْ فَعَلْتُ»، {وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا} قَالَ: «قَدْ فَعَلْتُ» (صحيح مسلم: [345]). وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْآيَةُ: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كل شيء قدير} [البقرة:284]، أَتَوَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَجَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ وَقَالُوا: "لَا نُطِيقُ لَا نَسْتَطِيعُ كُلِّفْنَا مِنَ الْعَمَلِ مَا لَا نُطِيقُ وَلَا نَسْتَطِيعُ" فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ من ربه والمؤمنون} إِلَى قَوْلِهِ: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ قَبْلِكُمْ: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} بَلْ قُولُوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}» فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] قَالَ: «نَعَمْ»، {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}، قَالَ: «نَعَمْ» {رَبَّنَا وَلَا تحمِّلنا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}، قَالَ: «نَعَمْ» (رواه ابن حبان في صحيحه وعلّق عليه الشيخ الألباني في التعليقات الحِسان: [139]: "صحيح"). وعن عائشة رضي الله عنها: "إن لنساء قريش فضلاً، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار، وأشد تصديقاً لكتاب الله ولا إيماناً بالتنزيل، لما نزلت سورة النور: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور من الآية:31]، انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهم ما أنزل الله إليهم منها، يتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابته، فما فيهنّ امرأة إلا قامت إلى مرطها فاعتجرت به تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتاب، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن على رؤوسهنّ الغربان". فالأحكام والتكاليف الشرعية مبناها على السمع والطاعة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وليس للعقل أو الرأي فيها أي مدخل، فواجب المسلم أن يمتثل أمر الله عز وجل، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يسأل: كيف؟! ولماذا؟ وما الحكمة؟! فإن ظهرت له الحكمة فبها ونعمت، وإلا فعليه أن يقول: سمعنا وأطعنا. قال الإمام النووي في (رياض الصالحين: بابُ ما يَقولُ مَن دُعي إلى حُكْمِ اللَّهِ تعالى): "ينبغي لمن قال له غيرُه: بيني وبينَك كتاب الله، أو سُنَّة رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، أو أقوال علماء المسلمين، أو نحو ذلك، أو قال: اذهبْ معي إلى حاكم المسلمين، أو المفتي لفصلِ الخصومةِ التي بيننا، وما أشبَه ذلك؛ أن يقولَ: سمعنا وأطعنا، أو سمعاً وطاعةً، أو نعم وكرامةٌ، أو شبه ذلك؛ قال الله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51]" ا. ھ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في (الفتاوى: [7/221]): "والقرآن يبين أن إيمان القلب يستلزم العمل الظاهر بحسبه؛ كقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ . وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ . وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ . أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ . إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:47-51]. فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول، وأخبر أن المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم سمعوا وأطاعوا؛ فبيّن أن هذا من لوازم الإيمان" ا. ھ. وخلاصة هذا الأمر: أن موقف المسلم من تشريع الله عز وجل هو الرضا والتسليم، وشعاره دائماً: سمعنا، وأطعنا، واتبعنا، وآمنا، فهذه وظيفتنا لا نتجاوز الكتاب والسنة. .
إقرأ المزيد