كتاب أثار تطبيق الشريعة الإسلامية في منع الجريمة دار المنار PDF ج. ج. لوريمر : 1992م - 1443هـ المَبْحَثُ الأَوَّلُ الإِسْلامُ وَالجَرِيمَة: المَنْهَجُ الإِسْلامِى لِمُكَافَحَةِ الجَرِيمَةِ يحاربُ الإسلامُ الجرائم؛ لأنَّهُ يفترض أنَّ الإنسانَ يجب أن يعيش من طريق شريف، وأن يحيا على ثمرات كفاحه وجهده الخاص، أى أنَّهُ لا يبنى كيانه على الجريمة[1]، والإسلام لا يعتبر أى فعلٍ من الأفعال جريمة إِلاَّ مافيه ضرر محقق للفرد والجماعة، ويظهر هذا الضرر فيما يمس الدين، أو العرض، أو النفس، أو النسل، أو المال، وما يترتَّبُ على ذلك من فسادٍ وإخلالٍ فى المجتمع[2]. والإسلامُ يستهدفُ حمايةَ أعراضِ النَّاس، والمحافظة على سمعتهم، وصيانة كرامتهم، ويظلُّ الإسلامُ دائِماً أبداً وفيَّاً لمبدئِهِ القاضى بتنظيفِ البيئة وقاية من الفتنة والجريمة، وابتغاء صياغة مجتمع بلا مشاكل، وفى سبيل ذلك تتبَّع الإسلامُ أسباب الفتنة فحذَّر منها[3]. وقد تميز الإسلام بمنهجه الفريد في مكافحة الجريمة واستئصالها من جذورها من خلال خطين متلازمين ومتوازيين، وهما: 1- الجانب الوقائي. 2- الجانب العلاجي. أَمَّا الجَانِبُ الوِقَائِي: فإِنَّ الإسلام لاينتظر وقوع الجريمة حتى يتصدى لها، وإنما يتخذ لها كل الإجراءات والتدابير، وما من شأنه الحيلولة دون وقوع الجريمة. وَأَمَّا الجَانِبُ العِلاجِي: فهو لايكون إلاَّ فى نهاية الأمر، والحق أن الإيمان والعبادات والأخلاق في الإسلام تمثل المنطلقات الأساسية في صياغة الإنسان المسلم الصالح الطاهر العفيف في بناء الحياة والحضارة الراشدة، فالمؤمن لا يسرق ولا يكذب ولا يشرب الخمر؛ لأَنَّ إيمانَهُ يردعه ويصده عن فعل المحرمات. وكذلك الطاعة والعبادة التي يقوم المسلم بأدائها، تَصُدُّهُ عن الوقوع في الإثم والمعصية، يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ ﴾[4]، ويقول الله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾[5]، وصاحب الخلق الحميد تمنعه أخلاقه من اقتراف المعاصي والآثام. وإِذا تبيَّن أنَّ الإنسان أصبح مصدر عدوان على البيئة التى كفلته وآوته، وأنَّهُ قابل عطفها وعنايتها بتعكير صفوها، وإقلاق أمنها، فلا ملام على هذه البيئة إذا حدَّت من عدوان أحد أفرادها، فكسرت السلاح الَّذى يؤذى به غيره[6]؛ لأنَّ الإسلام يسعى الى بناء العقيدة في النفوس وغرس الأخلاق الفاضلة، ويعتمد الإسلام على المجتمع في الوقوف أمام كل أشكال الجريمة والانحراف ومحاربتها والحيلولة دون وقوعها أو تمادي أصحابها، وذلك بإنكار المنكر والفساد، ومقاطعة أهل الجريمة والعدوان. وقد احترم الإسلامُ حقَّ الملكيَّة، واعتبره حقَّاً مقدَّساً، لا يحلُّ لأحدٍ أن يعتدى عليه بأىِّ وجهٍ من الوجوه، ولهذا حرَّم الإسلامُ السرقة، والغصب، والربا، والغش، وتطفيف الكيل والوزن، واعتبر كل مال أُخِذَ بغيرِ سبب مشروع فهو أكلٌ للمالِ بالباطل[7]. فالإسلام يوفر العيش الكريم والعمل الشريف ويرعى الفقراء والمساكين قبل أن يقيم حد السرقة أو يقطع الأيدي، كما يأمر بغض البصر، وينهى عن الخلوة بالأجنية، وعدم الاختلاط، ويمنع كل صور العري والعلاقات المشبوهة، ويأمر بالحجاب والسترة، ويسهل سبل الزواج قبل إقامة حد الزنى من خلال التشريعات الإسلاميَّة للجريمة. ومن أهم ملامح الجانب الوقائي إصلاح الجاني، وفتح أبواب التوبة أمامه على مصراعيها، وعدم تيئيسه من رحمة الله، وحثه على الإقلاع والندم، وعدم التمادي في الباطل، وبديهى أنَّ الإسلام يكره الجريمة، ويتوعَّدُ عليها بالنكال فى الدنيا والآخرة، ويتهدَّدُ أقواماً يرتكبونها سِرَّاً ثُمَّ يبرزون للنَّاسِ، وكأنَّهم أطهارٌ شرفاءٌ[8]، يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانَاً أَثِيمَاً يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُون مِنَ اللهِ ﴾[9]. إن التربية الإسلامية المستمرة بالحكمة والموعظة الحسنة ثم التوعية المستمرة بالجريمة وأخطارها من كافة الجهات المعنية، وأيضاً سد الأبواب والمنافذ التي تؤدي إلى اقتراف الجريمة، ثم إقامة العقوبة الشرعيَّة الرادعة، كل هذه الخطوات تؤدِّي الى مكافحة الجريمة وتنقية المجتمع من أخطارها، وبذلك فقد تكفَّلت التشريعات الجنائيَّة الإسلاميَّة على عاتقها عبء مكافحة الجريمة والتصدي لها؛ حماية للمجتمع من أن يقع فريسة لها بمختلف أنواعها. وهناك حقَّان متميِّزان ترعاهما الشَّريعةُ الإسلاميَّة هما: • حقُّ المخطئ فى فرصةٍ يتوب فيها، ويستأنف مسلكاً أنظف. • وحقُّ المجتمع فى صيانة كيانه من نزوات العميان، وتخبُّطه الَّذى يصيب الأبرياء والغافلين. والإسلام يرعى الحقَّين كليهما، فأمَّا حق المخطئ فى التوبة، فليس فى الأرض دين يُيَسِّرُ المتابَ للخاطئين، ويدفعهم إليه دفعاً كدين الإسلام، ولكن ما العمل إذا تحوَّل امرؤٌ إلى كلبٍ مسعور، فأصبح تركه حُرَّاً لا يزيده إِلاَّ ضَراوةً، ولا يَزيدُ المجتمع به إِلاَّ شَقاوةً، إِنَّ عقاب مثل هذا لا مناص منه[10]. حِرْصُ الإِسْلامِ عَلَى مُكَافَحَةِ الجَرِيمَةِ: إِنَّ الجريمة سلوك شاذ، يهدد أمن الأفراد، واستقرار المجتمعات، ويقوض أركان الدول والبلاد، وأحكام الشريعة الإسلامية الغراء بعدلها القويم، ومبادئها الشاملة تدور حول صيانة الضرورات الأساسيَّة التى لا يستطيع الإنسان أن يستغنى عنها، ويعيش بدونها، وقد وضعت الشريعة الإسلاميَّة فى سبيل المحافظة على هذه الكليات عقوبات زاجرة وأليمة لكل من يتعدَّى عليها، وينتهك حرمتها[11]. والإسلام باعتباره دين صلاح وإصلاح قد تصدى للظاهرة الإجراميَّة، وحرص الإسلام على الوقاية من الجريمة، وحاربها بطرق متعددة، وعلى مستويات مختلفة، وفاق بذلك كل النظم الوضعيَّة في الحد والإقلال من الجريمة، وإحدى الطرق التي اتَّبعها الإسلامُ في ذلك هي وضعه لنظام العقوبة. وَالعُقُوبَاتُ الشَّرْعِيَّةُ: هى عقوبات رادعة، وهى خير من أن يودع هؤلاء المجرمون في السجون؛ للتعوُّد على الجريمة والازدياد من الخبرة فيها، ولينفق عليهم من النفقات الطائلة، ويقام عليهم الحراس الذين يأخذون الرواتب الباهظة، دون أن يرتدعوا ودون أن يتعلموا ويتعلم من سواهم ضرر جريمتهم، وهذه العقوبات تعرف باسم "الحدود" و"التعزيزات"، وهذه الحدود تمنع الجرائم، وتردع المجرمين عن اقترافِ الجرائم. الحِكْمَةُ مِنْ تَشْرِيعِ الحُدُودِ فِى الإِسْلامِ: ليس المراد بالحدود التشفى، وإيقاع الناس فى الحرج، وتعذيبهم بقطع أعضائهم، أو قتلهم، أو رجمهم، وإنما المراد هو أن تسود الفضيلة وتُمنعُ الجريمة، ويعيش الناس فى استقرارٍ وهدوءٍ وأمن، ومن هنا نجد أنَّ الشرع ييسر فى هذه الحدود، فإذا اشتدت الظروف فى حالاتِ الجوع والخوف والحاجة تُعطل الحدود، كما فعل سيدنا عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ فى عام الرمادة. ومن التيسير أيضًا أن الإسلام يأمر بالستر قبل الوصول إلى الحاكم فقد رُوْىَ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجلٍ يشهد على الزنا: "لو سترته بثوبك كان خيرًا لك"[12]. وَالحِكْمَةُ مِنْ تَشْرِيعِ الحُدُودِ فِى الإِسْلامِ تتمثل في: • منع الناس من اقتراف الجرائم. • زجرهم عن المخالفات. • إبعادهم عن الإفساد في الأرض. • حملهم على فعل ما فيه الصلاح. فالحدود فى الإسلام إنما هى زواجر تمنع الإنسان المذنب أن يعود إلى هذه الجريمة مرة أخرى، وهى كذلك تزجر غيره عن التفكير فى مثل هذه الفعلة وتمنع من يفكر فى الجريمة من ارتكابها، وهى أيضًا نكال "مانع" من وقوع الجريمة على مستوى الفرد، وعلى مستوى الجماعة، "والعقوبات على الجرائم إنما جعلت زاجرة ومكفرة، فإنَّها زاجرة عن أن ترتكب المعاصى، وإذا نفذت فى الجانى إنما كفرت عنه ذنبه الذى اقترفه، فلا يعاقب عليه فى الآخرة"[13]. ولم تُشَرَّعُ العقوبه بهدف الانتقاممن المجرمين، وإنما لها أهداف وغايات عظيمة ومنها: 1- حفاظ على المصالح الأساسية للمجتمع وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وهى ما تُعرَفُ بـ "الكليات الخمس". 2- ردع المجرم عن ارتكاب جريمته، فعندما يرى العقوبة فإنه من المؤكد أَنَّهُ سيرتدع عنها مرة أخرى. 3- ردع غير المجرم عن تقليد المجرم في جريمته، فعندما يرى كل من تُسَوِّلُ له نفسه ارتكاب جريمة ما حلَّ بمجرم آخر ارتكبها قبله فإنه سيخاف ويرتدع عن ارتكابها حتى لا يلحق به من العقوبة ما لحق بغيره. 4- تهذيب نفس المجرم وإصلاحه، فليس المقصود من العقوبة مجرد الانتقام من المجرم، أو مجرد إلحاق الأذى به، بل يقصد اصلاحه وتحقيق مصلحته. أَهْدَافُ العُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ: أَوَّلاً: التَّطْهِيرُ: رض الله سبحانه وتعالى الحدود في الإسلام؛ لتكونَ مطهرات للذنوب التي ارتكبها أصحابها وعوقبوا عليها، وهذه الكفارة مطلوبة عند المسلم الذي يخاف عقوبة الله في الآخرة، وكذلك هي ماحية للذنب عند الله سبحانه في الآخرة. ثَانِيَاً: الزَّجْر: الحكمة الثانية التي من أجلها شرع الله الحدود في الإسلام هي الزجر أعني ردع المجرم نفسه عن معاودة الجرم، وكذلك ردع غيره إذا رأى العقوبة وعاين جزاء الجرم، ويظهر الزجر والردع فى مقدار الألم الذى تُحدثه العقوبة فى المجرم، وما تسببه له من فقدان حريته، أو بعض أعضائه، ولا شكَّ أنَّ فقده هذه الأشياء يؤلمه، ويخيفه، فيمتنع من الإجرام إِذا ما سوَّلت له نفسُهُ الإجرام، وزيَّنَ لهُ الشَّيطانُ مخالفة حدود الإسلام[14]. ولذلك فرض الله في عقوبة الزنا أن يشهدها طائفة من المؤمنين كما قال تعالى: ﴿ لزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةً وَلا تَأْخُذُكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِر وَلْيَشْهَد عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ ﴾[15]. أى: لا تأخذكم بهما رقة ورحمة فى حكم الله تعالى فتخففوا الضرب، أو تنقصوا العدد، بل أوجعوهما ضرباً، فلا تعطلوا حدود الله، ولا تأخذكم شفقة بالزناة، فإنَّ جريمة الزنى أكبر من أن تستدر العطف، أو تدفع إلى الرحمة[16]. وهذه الشهادة لعقوبة المجرم وهو يُقامُ عليه الحد من أقوى عوامل الردع والزجر عن الجريمة والمعصية، وقد أثبتت المشاهدات، والاستقراء على أنَّ الحدود الشرعيَّة ما طبقت في مكان ما إلا وقتلت الجريمة في مهدها وأمن الناس على أموالهم ودمائهم وأعراضهم، والعقوبة إذا قصُرت عن أن تؤدي مفعولها في زجر المجرمين عن أن يتمادوا بجرمهم، فسيكون ذلك مدعاة لانتشار الجريمة بما تؤدي إليه من انتشار الخوف. ثَالِثَاً: القِصَاصُ: الحكمة الثالثة من العقوبات الشرعية هي القصاص، ومعنى القصاص أن نأخذ من الجاني بقدر جنايته فالنفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والسن بالسن والقصاص عادل، وجزاء مكافئ تماماً للجريمة فليست نفس الجاني ولا عينه بأعز وأغلى من نفس وعين المجني عليه. رَابِعَاً: العَدْلُ: ويظهر العدل فى أنَّ العقوبة بقدر الجريمة، قال الله تعالى: "وجزاء سيِّئَةٍ سَيِّئةٌ مِثْلهَا"، فليس فيها زيادة على ما يستحقه المجرم[17]. تَطْبِيقُ الحُدُودِ رَحْمَةٌ لِلْبَشَرِ مِنْ انْتِشَارِ الجَرَائِمِ: إنَّ شدة العقوبات فى الإسلام إنما هى الرحمة كلها، وإنَّما هى صيانة لحقوق الإنسان؛ لأنَّنَا إذا طبَّقناها فى رجل أو رجلين، أو إمرأة أو امرأتين فإنَّنا حفظنا بذلك حقوق الملايين، وذاك الذى طبقت فيه العقوبة إنَّما هو الذى أضرَّ بحقوقه، وهو الذى أهان نفسه، فلا يلومنَّ إلاَّ نفسه [18]. ويحاول البعض من أعداء الإسلام أن يصوروا تطبيق الحدود على أنه تعذيب وقسوة وتنكيل، وهم حين يفكرون في ذلك الأمر، يفكرون في منظر تقطيع اليد، أو الجلد أو الرجم لمن أتى حدًا من حدود الله، ويتناسون نهائيا الأضرار التي نجمت عن ارتكابهم الحدود، من أموال الناس التي انتهبت، والتي ربما تسببت في فقر أصحابها، أو هتك الأعراض، واختلاط الأنساب، وفساد المجتمع. أليس من الأنفع للمجتمع أن تقطع يدٌ كلَّ عام، ويشيع الأمن بين الناس، ويطمئن الناس على أموالهم وأعراضهم، بدلا من إشاعة الخوف في نفوسهم وقلوبهم من أولئك الذين يرتكبون جرمًا في حق أنفسهم قبل أن يرتكبوا جرمًا أعظم في حق الناس. ثم إن الناظر إلى تطبيق الحدود يعلم أن هذا التطبيق يمنع ارتكابه وتكرره مرة أخرى، وإن إقامة الحدود في عهد الرسول وعهد الخلفاء الراشدين لم يتعد حدود أصابع اليدين، ثم إن اللين لا يجدي في كل موقف من المواقف، بل القسوة والشدة لهما أثرهما في الإصلاح أحيانا كثيرة. آثَارُ إِقَامَةِ الحُدُودِ: لإقامة الحدود بركات كثيرة نذكر منها: الحد من انتشار الجريمة، واستتاب الأمن، وحلول الخير والبركة، عن أبى هريرة رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حَدٌّ يُعْمَلُ بِهِ فِى الأَرْضِ خَيْرٌ لأَهْلِ الأَرْضِ مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحَاً" [19]. وقد ظهر أثر الأخذ بهذا التشريع الإسلامى فى البلاد التى تطبقه واضحاً فى استتاب الأمن، وحماية الأموال، وصيانتها من أيدى العابثين، والخارجين عن الشريعة والقانون. فإقامة حدود الله فيها نفع للناس؛ لأنَّها تمنع الجرائم، وتردع العصاة، وتكفُّ من تُحدِّثُهُ نفسُهُ بانتهاك الحرمات، وتحققُ الأمنَ لكلِّ فردٍ، على ماله، ونفسه، وعرضه، وسمعته، وكرامته، وكل عملٍ من شأنِهِ أنْ يُعطِّلً إِقامة حدود الله فهو تعطيل لأحكام الله، ومحاربة له؛ لأنَّ ذلك من شأنه إقرار المنكر، وإشاعة الشر [20]. القَضَاءُ عَلَى الجَرَائِمِ بِإِقَامَةِ الحُدُودِ الشَّرْعيَِّةِ: إِنَّ إقامة الحدودوأعني بها العقوبات الشرعية هي من أكبر أسباب زيادة الخيرات والبركات فقطع يد السارق يعني المحافظة على الأموال وخروجها من المخابىء ليعمل بها في التجارات والزراعات والصناعات؛ لأن صاحب رأس المال جبان -كما يقولون- فإذا توفرت له الحماية خرج، وإذا انتشرت اللصوصية والظلم اختبأ، أو هرب، ولا شكَّ أيضاً أن قتل القاتل ردع عن هذه الجريمة المسببة لخراب العمران، وتقطيع أوصال المجتمعات. وتنفيذ حد الزنا يقطع دابر البغاء، وإنفاق الأموال في غير وجهها، ويقطع الطريق على إنجاب أولاد الزنا الذين هم آفة المجتمعات، فالطفل الذي ينشأ لا يعلم له أباً يمتلئ قلبه بالحقد والكراهية للمجتمع، ولا شك أنه يظلم الناس إذا وجد الفرصة لذلك، ولهذا كان عامة المنحرفين والمجرمين من هؤلاء، فالله سبحانه وتعالى حين سنَّ لعباده قانون العقوبات هو أعلم بمن سنَّ لهم، فلولا أنّه يعلم أنَّ العقوبة تحقق للفرد الأمن، وللمجتمع الاستقرار لما شرَّع لهم هذه الحدود، ولما وضع فى تشريعه الخالد هذه العقوبات الزاجرة، وما هى فى الحقيقة إلا علاج ناجح، وبلسم شاف لتطهير المجتمع من إجرام المفسدين، ومن غدر الخائنين، ومن ظلم المستبدين. وفى تطبيقات الخلفاء لقانون العقوبات الإسلاميَّة عبر العصور أكبر شاهد على انحسار الجرائم الاجتماعيَّة عن المجتمع الإسلامى، ونادراً ما نسمع عن حادثة قتل، أو وقوع سرقة، أو انتهاك عرض، أو تجرع خمرة، أو الدعوة الصريحة السافرة إلى عقيدة باطنيَّة، أو مبدأ هدَّام.... ماذا؟! لأنَّ عين الدولة ساهرة، والحدود الشرعيَّة مطبَّقة، والتعاون على إزالة المنكر قائم، والأخذ على يد المفسدين متحقق، بل كان القاضى فى هذه العصور – ولا سيَّما عصر الراشدين – يجلس على منصَّة القضاء سنتين ولم يحتكم إليه اثنان؛ لأنَّ المجرم الذى يريد أن يرتكبَ الجريمة إذا لم يكن عنده من الإيمان الذى يردع، والخشية من الله التى تزجر، فإنَّه كان يحسب ألف حساب للعقوبة الزاجرة التى فرضها الإسلام، فكان يكف عن القتل لعلمه أنَّهُ سيُقتل، ويكف عن السرقه؛ لعلمه أنَّه ستُقطع يده، ويكفُّ عن الفاحشة؛ لعلمه أنَّه سيُرجم أو يجلد، ويكف عن الدعوة إلى الإلحاد وعقائد الكفر؛ لعلمه أنه سيعدم، وهكذا يكفُّ عن جميع الجرائم الاجتماعيَّة لما يتحسَّبه من عقوبةٍ رادعة، وأخذ بالذنب كبير[21]. فالشريعة الإسلامية شريعة عامة لكل زمان ومكان، والناس مختلفون فى ضبط نفوسهم، فلابُدَّ من وجود عقاب رادع يضبط أصحاب النفوس الضعيفة من الوقوع فى الجرائم، حتى يسلم المجتمع من الفساد ظاهرًا وباطنًا. خُطُورَةُ تَعْطِيلِ حُدُودِ اللهِ: إن تعطيل حدود الله هو حرب لله في أرضه، ومنازعة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في أمره، وإشاعة للفواحش والمنكرات بين الناس، وإذاعة للإجرام، ولأنواع الانتهاكات التي يتضرر بها جميع الناس، قال مجاهد: "لا تعطِّلوا حدود الله، ولا تتركوا إقامتها شفقة ورحمة [22]. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا قام أسامة بن زيد يكلمه فى أمر المرأة التى سرقت؛ ليُعطِّل فيها رسول الله حد السرقة غضب منه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد روي أنَّ قريشاً أهمتها أمر المرأة المخزوميَّة التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله؟ فكلم أسامة بن زيد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له النبى: "أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام رسول الله فخطب النَّاس، وقال: "يا أيُّها الناس إنَّما ضل من كان قبلكم أنَّهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، و إذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"[23]. فإقامة حدود الله له أثر كبير في أن تسود الفضيلة في المجتمع مما يترتب عليه اختفاء الجريمة بين الناس، وانتشار الأمن والأمان، وإذا كان العالم اليوم يشكو من السرقة التي استفحل أمرها، ومن حوادث الاغتصاب التي باتت تهدد كل فتاة، ومن حوادث القتل التي لا تكاد تأمن منها نفس، فمن لهذا العالم يخرجه من الفساد إلا نظام الله وقانونه الذي ما إن يُطَبَّق في مجتمع ما تطبيقاً عادلاً حتى تستقر الأوضاع، ويأمن الناس، وينقطع دابر الشر والفساد، وتختفى الجرائم من المجتمع. ويستطيع أي عاقل منصف ينظر إلى الشريعة الإسلاميَّة ومنهجها في الزجر عن الفساد في الأرض واستئصال دابر الجريمة، وكيفيَّة إقامة العدل بين الناس أن يصل إلى يقين بأن ترك هذه الشريعة يعني زرع الفساد في الأرض، وما انتشرت العصابات الإجراميَّة إِلاَّ نتيجة للتهاون فى العقاب، والاتجاه فى التربية نحو اللين والتسامح، وعدم أخذ المجرمين بالعلاج الحاسم، والعقوبة الرادعة، والشدة الزاجرة الصارمة. إِنَّ الإسلام لا يُشَدِّدُ فى العقوبة إِلاَّ بعد تحقيق الضمانات الوقائيَّة المانعة من وقوع الفعل، ومن توقيع العقوبة إلاَّ فى الحالات الثابتة التى لا شبهةَ فيها، فالإسلام منهج حياة متكامل لا يقوم على العقوبة، إِنَّما يقومُ على توفير أسباب الحياة النظيفة، ثُمَّ يُعاقبُ بعد ذلك من يدع الأخذ بهذه الأسباب الميسرة، ويتمرَّغُ فى الوحلِ طائِعاً غير مضطر[24]. خُطُورَةُ انْتِشَارِ الجَرَائِمِ وَالمَعَاصِي: إنَّ انتشار الإجرام بين الناس مؤذن بخطر عظيم، فهو مقتضٍ لحصول مقت الله سبحانه وتعالى وسخطه، وإذا حل المقت فإن العقوبة ستكون شاملة. وقد أخرج ابن ماجة في سننه وأحمد في المسند والحاكم في المستدرك بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر المهاجرين! أعيذكم بالله أن تدركوا خمساً: ما نقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وجور السلطان ونقص المئونة، وما نقض قوم عهد الله وميثاقه إلا سلط عليهم عدواً من سواهم فأخذ بعض ما في أيديهم، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا المطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، وما ظهرت الفاحشة في قوم فأعلنوا بها إلا ظهرت فيهم الأمراض التي لم تكن فيمن مضوا من أسلافهم، وما حكم قوم بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم". فهذه جرائم تتعلق بها عقوبات وشؤم في هذه الدنيا؛ فإذا انتشرت فوبالها وعقوبتها ستشمل الصالح والطالح؛ ولهذا يجب على المسلمين أن يتعاونوا على مكافحة هذه الجرائم والوقوف في وجهها. .
إقرأ المزيد