كتاب حين لا ينفع البكاء PDF أحمد عودة : مجموعة «حينَ لا ينفعُ البكاء» باكورةُ أعمال القاص والروائي الراحل: أحمد عودة، مِن المجموعات القصصيّة التي تجذبُك منذ القصة الأولى من عالم الواقعِ المحسوس، إلى عالمٍ موازٍ يتركُ نوافذَه مشرعةً على الواقع، ليبقيك مُعلّقا في منطقة البين بين، فالأحداثُ والشخوصُ والأماكنُ تنتمي برمّتها إلى عالمِ الواقعِ الماديّ؛ بيد أن الفضاءَ النفسي المُهيمن على مجمل المجموعة فضاءٌ مُتخيّل تفنَّنَ الكاتبُ عبرَ لغته المتدفقة وأسلوبه الرشيق في بناء تفاصيله، وعلى الرغم من تنوّع القصص وموضوعاتها داخل المجموعة ينسربُ بين يديّ القارئ خيطٌ دلاليّ رفيعٌ يشدُّ إزارَ البنية المضمونية؛ التي تمحورت بشكل رئيسٍ حول صراعِ الإنسان الوجودي مع الآخر؛ هذا الصراعُ الذي بدأ منذ بداية الخليقة مع إزالة الستارِ عن أوّلِ مشهدٍ دمويٍّ بين قابيل وهابيل، مُخلّفًا وراءَه إحساسًا مُتّصلا بالفقد والفجيعة؛ لم يستطع الإنسانُ تجاوزَه على مرِّ العصور وتعاقبِ الأجيال، ذلك أن ثنائيةَ الخير والشرّ المُنبثقة عن ذلك المشهد ما زالت تتكرّر بصفةٍ فرديّة كما هي الحال مع الطغاة والمتنفّذين على المستوى الشخصي، وصفةٍ جماعية كما هي الحال مع سيادة أنظمة عنصرية دكتاتورية لا تؤمن بوجودها إلّا من خلال إزاحة الآخرين، وفرضِ هيمنتها بمنطقِ القوّة والترهيبِ كما هو الحال مع الكيان الصهيوني. ونحن إزاءَ هذه المشهديّة المتأزّمة نجدُ أن البكاءَ لا شك لن يجدي شيئا، كما يشيرُ عنوانُ المجموعةِ القصصيّة والذي كان عنوانا لأولى قصصها؛ التي جاءت لتجسّدَ هذه القضية الوجودية بشكل عميق، ويكونَ الخيطَ الدلاليّ الواصلَ بين مختلف ثيماتِ قصصها الأخرى. فالمواجهةُ في ظلِّ واقعٍ غير متوازن القوى لن تجدي شيئا، ولذلك نجد الانحياز إلى واقعٍ افتراضي يرتكزُ على الأوهام باتَ الخيارَ الوحيدَ في هذه المعادلة «إذن فالرجالُ مثله كانوا يخفون الحقيقةَ خشيةَ العار، يتوهمونَ أن لهم قطعانًا في البيوت، كلهم كان يقتلُهم الوهم». تتناوبُ قصصُ المجموعة بعد ذلك بالتقاط البعدِ النفسيّ للشخصيّات المتنوّعة للتعبير عن أنَّ المعاناةَ التي يخوضُها الإنسانُ المعاصر لم تنحصر في فئةٍ معيّنة دون أخرى، فالمرأةُ والرجل صنوان في مكابدةِ المصير المحتوم، وإن كانت المرأة أشدَّ استلابًا في ظلِّ مجتمعٍ ذكوريّ يجرّدُها من أبسط حقوقها الإنسانية؛ ولا يُنظرُ إليها إلّا بوصفها سلعةً كما جاءَ على لسانِ الراوي؛ وهو يجسّد مشاعرَ بطلةِ ثاني قصص المجموعة «ولكنّها العاداتُ في الريف التي لا تنفك تذكّرها بأنها لم تكن سوى سلعـةٍ في نظر أبيها؛ الذي باعَ قبل أسبوعين بقرةً بنفس الطريقة التي باعها هي» وتأتي محاولةُ زرعِ شجرةِ الصفصاف من قبلِ البطلة مُعادِلًا موضوعيًّا لمقاومةِ الجدبِ واليباسِ في محاولةٍ لوقفِ سريانِه بين عروقِها، لكن دونما جدوى. فالعاصفةُ أقوى من ذلك الجسدِ الهزيل. ومثلما لم يُجدِ البكاءُ نفعًا في القصة الأولى؛ لم تُجدِ محاولةُ الصمود بوجه العاصفةِ المُحيلةِ إلى سلطةِ الواقعِ الاجتماعيّة والتراثيّة، لإعادةِ نسغِ الحياةِ والاخضرارِ إلى قلب المرأة. وكذلك الحالُ مع باقي قصص المجموعة التي كان فيها العجزُ والاستلابُ المساران المُهيمنان على فضاء القص؛ الذي اتسم بوعيِّ سرديٍّ عالٍ بأدواتِ الاشتغال فلم يطغَ الحوارُ على الوصف، بل عزَّزَ وظيفتَه في إضاءة الحدث وبلورته. ولذلك جاءَ البناءُ القصصيُّ مُتماسكًا، ونجحَ في تفعيل عناصر السرد كافة ، كالزمان والمكان والشخصيات والحبكة، التي اتقنَ القاصُ زمَّ أركانِها على الرغم من انحيازه نحوَ اختيار نهاياتٍ مفتوحةٍ في الغالب؛ بما يتيحُ للقارئ إعمالَ خيالِه وتحفيزَ حسِّ التلقّي لديه؛ للتفاعل مع النص تفاعلًا يُمكّنه من ملءِ فجواتِه وإغلاقِ دوائره . ولعلَّ ليس ذلك ما يُميّز تلك المجموعةُ القصصيّةُ بحسب رؤيتنا؛ بقدر تميّزها لغويّا، إذ إنَّ المتمعنَ في لغةِ الكاتبِ يستأنسُ وراءَ ذلك البناءَ السرديَّ مُبدعًا مُتمكّنا من لغتِه؛ التي تجمع بين الحداثة والكلاسيكية في نسقٍ جماليّ يشي بروح شعرية تنساب تحت ملاءة السرد؛ بما تكتنزه من خيالٍ خصبٍ وصوّرٍ شعريّة متناثرةٍ بين طيّات المتن السردي؛ من ذلك قوله في قصته المُعنونة بجنازة شتاء «الشمسُ أطفأتها الغيومُ السوداءُ الكثيفةُ وضبابٌ أعمى يذرعُ الفضاءَ بأقدامٍ ثقيلة؛ يضمُّ ذراعية على برودة قاتلة، يقرعُ الأبوابَ التي انغلقت على ساكنيها الذين تحلّقوا من حول المدافئ يدرأون بها البرد». فهذه الصور الحركيّة هي صورٌ شعريّة بالدرجة الأساس، لكنَّ تموضعها داخلَ المتن السرديّ منحته بُعدًا جماليّا مما يرسّخ الحمولةَ العاطفيّة ويعززُ البعد الإنسانيّ فيه. ولا يُمكن الإحاطة بمجمل السمات الفنيّة في سطور هذه المقدمة المُقتضبة، التي هدفت إلى اضاءةِ الطريقِ أمام القارئ قبل دخولِه مفازاتِ مجموعة قصصيّة، يتوجّبُ على قارئها قبل الشروع بقراءتها الانتباهَ إلى قضيتين مهمتين؛ الأولى زمنُ كتابةِ القصص الذي يعود إلى سبعينيات القرن المنصرم، فضلًا عن كونها باكورة أعمال الكاتب في المجال القصصي، الأمر الذي يثير كثيرا من الدهشة والتقدير للحرفية الواضحة لدى الأديب الراحل: أحمد عودة، وينمُّ عن ثقافة فنية وإبداعيّة ولغويّة نادرة ستثبتُ جدارتَها في قابل الأيّام. د:فاتن الشوبكي.
إقرأ المزيد