كتاب الشورى في الإسلام PDF د. برهان زريق : نستطيع القول – بيقين – إن الشورى في الإسلام مبدأ حياة يسوس ويسود جوانبها الرحبة، وما تمور به من أسس وجوانب قاصدين هنا بالمبدأ قاعدة القواعد، أي تلك الآلية التي تحكم جملة قواعد، فالشورى بهذا التأصيل ليست نظاماً سياسياً فقط، بل منهجاً اجتماعياً وأساساً شرعياً يقوم عليه نظام المجتمع المسلم، حتى وقبل وجود الدولة والحكومة، وقد نقل القرطبي في تفسيره عن ابن عطية قوله: الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب. وقد نزلت ثلاث آيات تتعلق بالشورى، وفضلاً عن ذلك فقد أوجب الله تعالى الرجوع إلى الأمة في آيتين، فقال في سورة آل عمران "وشاورهم في الأمر"، وجعل من بين صفات المؤمنين تبادل الرأي والتشاور في أمورهم فذكر في سورة الشورى: "وأمرهم شورى بينهم. وهنالك الأحاديث الكثيرة للرسول الكريم، تدعو إلى المشورة وأخذ الرأي، منها قوله صلى الله عليه وسلم: استعينوا على أمركم بالمشورة. وكان يردد في أكثر المناسبات: أشيروا عليَّ أيها الناس. وفضلاً عن ذلك، فقد كان الخلفاء الراشدون يرجعون إلى الصحابة في كل ما يهم المسلمين، ومن ثم فقد كان نظام الحكم شورياً إلا أنه تطور بعد عهد الخلفاء الراشدين من الشورى إلى الملكية المطلقة على عهد أبي جعفر المنصور في مستهل الخلافة العباسية. وزيادة في الإيضاح، فقد تطور النظام السياسي في الإسلام من نظام ديموقراطي في عهد الخلفاء الراشدين إلى نظام ملكي وراثي. ولكنه مقيد في بداية عصر الأسرة الأموية، ثم انقلب حكماً مطلقاً مع نهاية عهد الأمويين وفي ظل الحكم العباسي. وأخذ الرأي وإعطاؤه لم يكن أمراً غريباً على العرب في الجاهلية، ونحن نذكر القارئ بتجربة المزود التي ذر قرفها في اليمن، كما أن المشورة وأهل الرأي انطلق بالحديث عنهما الركبان، ونكتفي هنا بذكر قول الشاعر الأفوه الأودي: تبقى الأمور بأهل الرأي ما صلحت فإن تولت فبالأشرار تنقاد وقول القيط بن يعمر: ما انفك يجلب هذا الدهر الشطرة يكون متَّبِعاً طوراً ومتَّبَعاً والشورى هي الأصل الثاني للنظام الإسلامي بعد النص. فالشورى بذاتها نص، نص على الإقرار للأمة المستخلفة بحقها في المشاركة العامة في شؤون الحكم. بل إن ذلك من واجباتها؛ إذ الشورى علم على دولة الإسلام وأمة الإسلام، ولهذا لو قلت إنها دولة الشورى وأمة الشورى لهديت إلى الحق. وقد تفرد الإسلام بهذا المبدأ الأصلي وأقره سلوكاً عاماً في المجتمع وأسلوباً في إدارة الشؤون العامة، حتى أن المفسر الكبير الأندلسي القرطبي ربط به شرعية الحكم فقال: من لم يستشر العلماء فعزله واجب لا خلاف بين العلماء. والشورى في الإسلام ليست حكماً فرعياً من أحكام الدين، يستدل عليه بآية أو بآيتين وببعض الأحاديث والوقائع، وإنما هي أصل من أصول الدين، ومقتضى من مقتضيات الاستخلاف أي أيلولة السلطة الربانية إلى العباد. فالشورى هي العمود الفقري في سلطان الأمة، ونهوضها بأمانة الحكم على أساس المشاركة والتعاون والمسؤولية وهي مشاركة خولها لأئمة المسلمين في التشريع والتنفيذ. عن علي كرم الله وجهه قوله: قلت يا رسول الله إن نزل بنا أمر، فما تأمر؟ قال: شاوروا فيه الفقهاء والعابدين ولا تمضوا فيه برأي خاص. ولقد كان الأمر كذلك في عهد الخلافة الراشدية، فقد كان المسجد منتدى لتداول الرأي في كل المشكلات المطروحة. ولقد انقلب حكم الشورى بعد سيدنا علي ليصبح انفراداً واستبداداً بالسلطة دون أصحابها الشرعيين، فسقط بذلك ركن من أركان الشريعة، وبدأت رحلة الفصام النكد بين الدين والسياسة في حياة المسلمين. روى مسلم عن عبد الله بن عمر "من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر، فاضربوا عنقه. هذا وسنقسم الكتاب إلى قسمين رئيسيين، نتكلم في الأول عن النظرية في حال السكون، أي عن بنية النظرية ومواضيعها وفروعها، على أن نتكلم في القسم الثاني عن النظرية في حالة الحركة والتطبيق والممارسة، مشيرين إلى أننا أآخذنا بعين الاعتبار – في القسم الثاني – مشروعية الممارسة، حيث جرى التمييز بين الشورى في الحقبة الراشدية وبين الشورى في مرحلة الملكية العضوض، مع التنويه بأننا درسنا التجربة النبوية مع مرحلة التأسيس (النظرية في حال السكون) على اعتبار أن هذه التجربة انطوت على عنصر تأسيس بنيوي "تشريع ابتنائي" في تكوين النظرية دون أن تكون مجرد مظهر تطبيق محض.
إقرأ المزيد