كتاب العرب في الهلال الخصيب PDF د برهان زريق : يستعمل علماء الجغرافية جهازين مفهومين هما: الموضع والموقع. ويقصد بالموضع الجغرافي: المكاني الذي يشغله الإقليم أو البلد. أما الموقع: فهو علاقة المكان بغيره من المواقع، كأن يجعل هذا المكان حيزاَ ممتازاً أو غيره. ونستطيع أن نقرر بيقين أن الله تعالى بوأ الجزيرة العربية موقعاً جغرافياً ممتازاً أتاح لها أن تؤثر وتتأثر في المناطق الجغرافية المجاورة ونخص ذلك بالذكر منطقة الهلال الخصيب. وقد أثر عن نابليون قوله: إذا أردت أن تفرق سياسة أمة فالتمسها في جغرافيتها، وهذا القول ولا شك أساس علم الجغرافيا السياسية. وفضلاً عن ذلك فالجغرافيا تضع لمساتها وبصماتها على مختلف جوانب حياة الأمة وفعالياتها وتوجهاتها. وإذا اعتمدنا مبدأ الاستجابة، أمكننا التأكيد أن أهم معلم لتلك الاستجابة يبرز في التأثير المتبادل بين الإنسان والطبيعة، وهو الأمر الذي يصدق بقوة على الماضي، فقد استطاع الفاعل الجغرافي أن ينتج بكلكله على الإنسان، ومعنى ذلك أن العلاقات الأولى بين الإنسان والبيئة الجغرافية ذات سمة سحرية ودينية، ولا يقتصر الأمر على الإنسان القديم، بل إن التمثلات الجماعية التي يكونها الناس الحاليون عن إقليمهم وبلدهم ووطنهم ذات سمة سحرية دينية بارزة. وحقيقة أنه مهما تكلمنا على الفاعل الذاتي بإرادة الإنسان أو المعطى الموضوعي "الحتم الجغرافي" فالتاريخ هو ظل الإنسان في جدله مع الأرض بقدر ما إن الجغرافيا هي ظل الأرض على الزمان. فالشخصية الإقليمية تتجاوز المحصلة الحسابية الخصائص وتوزيعات الإقليم، فهي السؤال الذي يبتعد إلى روح المكان ليستشف عبقريته الذاتية: genuislice، والتعبير الحر والبوح الطبيعي لهذه الشخصية، وقد لعبته خرساء لكنها تنطق من خلال الإنسان. وشخصية الإقليم، مثل شخصية الإنسان تتطور وتتدهور، وهو الأمر الذي يجعلنا نتكلم عن فلسفة المكان متجاورين التحديد الثابت لمعطيات الإقليم إن التفاعل بين أجزاء الوطن العربي لم ينقطع منذ الأدوار الجيولوجية الأولى، بل استمر دون انقطاع اجتماعياً وفكرياً وسياساً في مظاهر وأشكال لا حصر لها، وإلا كيف نفسر ظهور دولة الأنباط، وتدمر وبني المنذر وبني غسان ومن مظاهر ذلك أيضاً نذكر على سبيل المثال دولة ويدان التي أسسها عرب اليمن في العربية الشمالية، وبالذات عقدة المواصلات حتى أن نفوذ هذه الدولة بلغ مصر وإلى جزيرة ديلوس اليونانية. ماذا يعني هذا التسرب المستمر لسكان الجزيرة العربية باتجاه سوريا والعراق ومصر وذلك خلال كافة الحقب التاريخية. كيف نفسر هجرة الفينيقيين من الخليج العربي إلى سوريا، ثم إلى شمال إفريقيا، ثم كيف نفسر انتقال البرابرة إلى الجزائر والمغرب العربي وليبيا ومصر. إن الوطن العربي كتلة تاريخية ثقافية واحدة، وأروبا حضارية واحدة، والعروبة إن لم تكن أصل السامية فهي توأمها. وهذا ما أكده محي الدين الخطيب- وهو أحد أعلام النهضة الذين تأثروا بمحمد عبده- بأن معجزة التوحيد الإسلامي تمثلت في إعادة الوحدة القومية واللغوية للشعوب السامية، حيث أصبحت اللغة العربية لغة جميع الساميين، لما كانت اللغة السامية الأولى لغتهم، وكذلك في إعادة الوحدة قبل التشتت والانقسام. الوحدة إلى القبائل العربية وإلى اللغة العربية بالذات والتي كانت لهجاتها المتعددة المتباينة في القبائل المختلفة مظهراً من مظاهر الفرقة والضعف القومي من الأمة العربية. وهذا ما أكده عبد الرحمن شهبندر بقوله: إننا نظرنا لسماع أسماء قبل صعصعة وأبي كرب وأذينة والزباء والحارث مطمورة تحت أقفاص بابل واليمن وتدمر ووادي عاموس من العرف النسبي، وإن الغرب بنو المدائن في صفارة ورفعوا الكرنك منذ انبثاق فجر التاريخ هم ذو أصول عربية. ويرى الدكتور جواد علي أن وطن الساميين الأول هو جزيرة العرب، وفيه هاجروا إلى الأماكن المعروفة التي استقروا فيها، فهم في ذلك مثل القبائل العربية التي تركت بلاد العرب، استقرت في العراق، وفي بادية الشام وبلاد الشام لا يختلفون عنهم في شيء. ويضيف القول: إن القبائل العربية المهاجرة هي قبائل معروفة الأصل وقد نصت الموارد الأخرى على عروبتها، ونسبت نفسها إلى جزيرة العرب، ولهجاتها لهجات عربية، لا ريب في ذلك ولا نزاع، وثقافتها عربية، أما الشعوب السامية فليس بين العلماء، اتفاق على وطنها الأول. ويتابع القول: إن مصطلح الشعوب العربية هو أصدق اصطلاح يمكن إطلاقه على تلك الشعوب وإن الزمان قد حان لاستبدال مصطلح عربي وعربية ب سامي وسامية، فالسامية وحدة ثقافية والعروبة وحدة ثقافية وجنسية وروابط دموية وتاريخية. وفي رأينا أن الحياة في الجزيرة خضعت إلى نمط الاستقرار والانتشار الذي أدى إلى انقسام القبيلة المستقرة إلى وحدات متناثرة، مما اضطر هذه الوحدات المتناثرة إلى النزوح وإعادة الاستقرار في مناطق مختلفة، ومع عوامل من قبائل وانتماءات مختلفة حتى الذين اضطرتهم ظروف الحياة آنذاك إلى الاستقرار لاحقاً في القبائل المترحلة تأثروا بهذا النمط الانتشاري للاستقرار نتيجة لذلك فقط انقسمت القبيلة وتفككت منطقتها الجغرافيا لتصبح منطقتها يسكنها أناس من مختلف الانتماءات الاجتماعية. وهكذا فالتاريخ السياسي والاجتماعي للجزيرة العربية، ثم في سياق عمليات اجتماعية: هجرة، استقرار، نزوح، ثم إعادة استقرار وظهور المدن.
إقرأ المزيد